الثلاثاء 4 مارس 2025
تحولات السلطة
الساعة 11:19 مساءً
د. حمود العودي د. حمود العودي

لم يكن انتقال السلطة إلى معاوية بن أبي سفيان مجرد تغيير في شخص الحاكم، بل كان تحولاً جذرياً في بنية الدولة والمجتمع الإسلامي على حد سواء.. فمنذ لحظة استتباب الأمر له، بدأ بإعادة صياغة شكل الحكم، حيث تحررت السلطة من الإطار الديني التقليدي إلى منطق السياسة البحتة، وأصبحت تقوم على القوة والكفاءة في إدارة الدولة، لا على الشرعية المستمدة من الصحبة أو الفضل الديني.. هذا التحول لم يكن مجرد إجراء سياسي، بل كان له انعكاسات عميقة على التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للدولة الإسلامية، إذ أفرز طبقات جديدة، وأعاد تشكيل موازين القوى بين القبائل، وأثر بشكل مباشر على توزيع الثروة والنفوذ داخل المجتمع.

فقد شهد عهد معاوية انحساراً واضحاً لنفوذ الصحابة التقليديين الذين كانوا جزءا أساسياً من منظومة الحكم في عهد الخلافة الراشدة... فقد اعتمد معاوية على رجال دولة جدد لم تكن شرعيتهم مستمدة من الصحبة بقدر ما كانت قائمة على مهارتهم الإدارية وقدرتهم على تثبيت أركان الحكم..كان زياد بن أبيه أحد أبرز هؤلاء، إذ استطاع معاوية توظيفه ليكون أحد أعمدة دولته، رغم الجدل الذي أثير حول نسبه ـ وليس هذا موضوعنا- فلم يكن هذا مجرد اختيار شخصي، بل كان تعبيراً جلياً عن نمط جديد من الحكم يعتمد على الولاء السياسي والكفاءة الإدارية بدلاً من معيار السبق في الإسلام أو القرابة من النبي محمد صلى الله عليه وسلم المعتمدة كمعيار اساس حتى الهليفة الرشاد علي بن ابي طالب رضي الله عنه ،ومع صعود هذه الطبقة السياسية الجديدة، بدأ شكل المجتمع يتغير، حيث تراجع دور رجال الدين في التأثير المباشر على القرار السياسي، وأصبح الحكم شأناً مدنياً أكثر منه دينيا، رغم استمرار استخدام الرمزية الدينية في الخطاب السياسي.

حيث لوحظ للقبائل دوراً محورياً في تثبيت حكم معاوية..لكنه لم يعتمد على الولاءات التقليدية لقريش فقط، بل عمد إلى تقوية نفوذ القبائل الشامية، وجعل منها العمود الفقري لدولته. أدى هذا إلى إضعاف نفوذ القبائل الحجازية والعراقية التي كانت تتمتع بمكانة متميزة في العهد السابق، مما خلق نوعا من التفاوت في الامتيازات بين القبائل المختلفة... لم يكن هذا التحول مجرد قرار إداري بل كان جزءا من استراتيجية طويلة الأمد لتأمين الحكم؛ حيث جعل من الشام مركز القوة السياسية والعسكرية للدولة الإسلامية، بينما تراجع دور المدينة ومكة والكوفة، التي طالما مثلت معاقل الدولة الإسلامية وتحولت إلى معاقلاً للمعارضة السياسية والفكرية. في المقابل استمرت بعض أشكال التمييز الاجتماعي داخل الدولة، خاصة فيما يتعلق بالموالي.. حيث لم يكن لهم نفس الحقوق التي يتمتع بها العرب، رغم دخولهم في الإسلام، وكانوا في كثير من الأحيان مطالبين بدفع الجزية حتى بعد إسلامهم.. أسهم هذا التمييز في خلق إحساس متزايد بالغُبن لدى هذه الفئة، مما جعلها لاحقا ً أحد أعمدة المعارضة السياسية للدولة الأموية، وساهم في إضعافها مع مرور الوقت.

ومن الناحية الاقتصادية.. شهدت الدولة الإسلامية في عهد معاوية تحولات كبيرة في توزيع الثروة والموارد. كان اعتماد معاوية على سياسة "شراء الولاءات" من خلال توزيع العطايا على زعماء القبائل وكبار القادة العسكريين أحد أهم الأدوات التي استخدمها لترسيخ حكمه، لكنه أدى في المقابل إلى تزايد الفجوة بين النخبة الحاكمة والعامة. لم تكن هذه السياسة جديدة تماماً، لكنها اتخذت بعد اًأكثر وضوحاً في عهده، حيث أصبحت الامتيازات الاقتصادية وسيلة لضمان الولاء، بدلاً من أن تكون مجرد مكافآت رمزية كما كان الحال في السابق. في الوقت نفسه، شهدت التجارة ازدهارًا ملحوظًا بفضل الاستقرار النسبي الذي فرضه معاوية، مما أدى إلى صعود طبقة جديدة من التجار وأصحاب رؤوس الأموال، خاصة في دمشق التي تحولت إلى مركز اقتصادي وسياسي رئيسي. ومع ذلك، لم يكن هذا الازدهار الاقتصادي شاملاً، إذ عانى الفلاحون، خاصة في العراق ومصر، من زيادة الضرائب المفروضة عليهم لتمويل الإنفاق الحكومي والعسكري، مما أدى إلى تصاعد التذمر في بعض الأوساط الاجتماعية.

لم يكن عهد معاوية مجرد فترة داخلية للاستقرار، بل شهد أيضاً استكمال الفتوحات الإسلامية، خاصة في شمال إفريقيا وآسيا الوسطى، وهو ما أدى إلى توسع الدولة وتعاظم مواردها، لكنه في المقابل خلق تحديات اجتماعية جديدة. فقد أدى تدفق الغنائم والثروات من الفتوحات إلى زيادة الفجوة الاقتصادية بين الطبقات، حيث استفادت منها النخبة الحاكمة، بينما بقيت الطبقات الفقيرة تعاني من الضغوط الاقتصادية. كما أن استمرار الفتوحات زاد من عدد السكان غير العرب داخل الدولة، مما أدى إلى تنامي الشعور بعدم المساواة بين العرب والموالي، وهو ما مهد لاحقًا لصراعات اجتماعية وسياسية كبرى داخل الدولة الأموية.

لم يكن الجميع راضياً عن هذه التغيرات؛ فقد ظهرت حركات معارضة متنوعة، بعضها كان يحمل طابعا سياسياً وبعضها الآخر كان احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية...كانت حركة الخوارج أبرز مثال على ذلك، إذ لم يكن رفضهم لحكم معاوية مجرد موقف ديني متشدد، بل كان أيضًا تعبيرًا عن رفض النظام الاجتماعي والسياسي الذي بدأ يتشكل في عهده. كانوا يطالبون بالمساواة المطلقة بين المسلمين، بغض النظر عن نسبهم أو قبائلهم، ورفضوا مبدأ التوريث الذي بدأ يلوح في الأفق مع إعداد معاوية لولاية العهد ليزيد. في المقابل، كانت المعارضة الشيعية في العراق تحمل بعدًا سياسيًا واجتماعيًا مختلفاً.. حيث كانت تعبر عن احتجاج شرائح معينة من المجتمع على فقدانها لمكانتها التقليدية في ظل الحكم الأموي، خاصة في الكوفة التي كانت تمثل معقلاً رئيسياً لأنصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

صحيح بأن معاوية بن أبي سفيان قد أرسى دعائم نظام سياسي جديد، لكنه في الوقت نفسه أحدث تغييرات عميقة في المجتمع الإسلامي..لم تكن جميعها إيجابية على المدى الطويل. فقد أدى تركيز السلطة في الشام والاعتماد على الولاءات القبلية والتفاوت في توزيع الثروة، إلى خلق تناقضات داخلية استمرت في التأثير على الدولة الإسلامية حتى بعد وفاته. وعلى الرغم من نجاحه في تحقيق الاستقرار السياسي وتجنب الصراعات الداخلية الكبيرة خلال فترة حكمه، إلا أن الأسس التي وضعها لحكم بني أمية حملت في طياتها بذور الأزمات اللاحقة التي أدت في النهاية إلى سقوط الدولة الأموية بعد أقل من قرن على تأسيسها مثل تركيزه للسلطة في الشام على حساب الحجاز والعراق وقد كان سبباً في شعور النخب التقليدية بالإقصاء وجعلها مصدر للمعارضة السياسية، وظهر ذلك جليا في ثورتي الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.. كما عزز نفوذ قبائل الشام، مما أدى إلى تصاعد النزاعات القبلية داخل الدولة،وبلغت ذروتها في الصراعات الدموية بين القيسية واليمانية، التي زعزعت استقرار الحكم الأموي ،بالإضافة إلى إعتماد مبدأ التوريث كخطوة حاسمة في تحويل الخلافة إلى ملك وراثي، و هذا التحول أثار موجة رفض واسعة خاصة مع مبايعة يزيد، مما فجّر صراعات سياسية وانقسامات داخلية أسهمت في إضعاف الدولة..حيث لم يكن هذا الرفض قاصراً على الجانب السياسي، بل امتد إلى البنية الاجتماعية، حيث استمر التمييز بين العرب والموالي، مما جعل الفرس وغيرهم من المسلمين غير العرب قاعدة خصبة للثورات التي أطاحت بالأمويين لاحقًا هذا ما يتعلق بالأسباب السياسية ،أما على المستوى الاقتصادي؛ فقد أدى اعتماد معاوية على توزيع العطايا لضمان الولاءات إلى تراكم الثروة بيد فئة محدودة بينما زادت الضرائب على الفلاحين وأهل العراق ومصر واليمن، مما فاقم التفاوت الطبقي وأشعل احتجاجات متكررة، كان أبرزها ثورات المختار الثقفي والخوارج.. وعلى الصعيد الأمني، اعتمد معاوية على سياسة القمع الحازم كما حدث في قتل حجر بن عدي..مما خلق عداء دائماً ضد الحكم الأموي، خاصة في الكوفة والبصرة، وجعل هذه المدن مراكز للتمرد المستمر..مع مرور الزمن تراكمت هذه الأزمات و تصاعدت النزاعات القبلية والسياسية والاجتماعية، وأصبحت الدولة أكثر ضعفا أمام المعارضة الداخلية..حتى تمكن العباسيون من استغلال هذه التناقضات للإطاحة بها بعد أقل من قرن على تأسيسها.

 وإذا كان معاوية قد نجح في فصل السياسة عن العقيدة إلى حد كبير..فإنه في المقابل أوجد نظاماً سلطوياً لم يكن خالياً من الإشكالات الاجتماعية والاقتصادية التي مهدت الطريق للتحولات الكبرى في التاريخ الإسلامي اللاحق.

 

معاوية واليمنيين 

   وثقت المصادر التاريخية بأن اليمنيون لعبوا دوراً محورياً في المشهد السياسي خلال فترة حكم معاوية بن أبي سفيان، سواء كحلفاء للنظام الأموي أو كجزء من المعارضة التي ناهضت سياساته فقد كانت اليمن، بقبائلها العريقة ذات تأثير كبير في التركيبة القبلية للدولة الإسلامية، ولم يكن معاوية غافلا عن ذلك؛ بل عمل على كسب ولاء بعض القبائل اليمنية في الوقت الذي واجه معارضة من قبائل أخرى كانت تميل إلى خصومه السياسيين.

فمنذ بداية حكمه..سعى معاوية إلى استمالة القبائل اليمنية في الشام وعلى رأسها قبائل كندة وحِمْير وهمدان، حيث منحهم مناصب رفيعة في الدولة، خصوصا في الجيش والإدارة.. وقد كان لبعض القادة اليمنيين مكانة بارزة في بلاط معاوية، مثل بسر بن أرطأة الذي لعب دوراً عسكرياً مهماً في تثبيت الحكم الأموي في الجزيرة العربية، وشُرَحبيل بن السِّمط الكندي، الذي كان من قادة جيش معاوية في صفين ثم تولّى ولاية حمص لاحقاً

إلا أن العلاقة بين معاوية واليمنيين لم تكن دائمًا مستقرة، فقد كان هناك جناح واسع من قبائل اليمن في العراق والحجاز يميل إلى آل علي بن أبي طالب، ويعارض الحكم الأموي، خاصة في الكوفة والبصرة. وقد برز ذلك في دعمهم القوي للإمام الحسين بن علي في ثورته ضد يزيد بن معاوية، حيث شكّلت القبائل اليمنية في العراق جزءًا أساسيًا من القوى التي ناصرت الحسين، لكن ظروف الصراع حالت دون وصول الدعم الكافي له في كربلاء.

     وفي ذات السياق.. فإن الخوارج الذين كانوا من أشد خصوم بني أمية ضمّوا في صفوفهم عدداً من المحاربين اليمنيين، خصوصاً من همدان.. حيث كانوا يرون في الحكم الأموي نموذجا للحكم الجائر الذي لا يلتزم بمبدأ المساواة بين المسلمين. وقد انضم بعض اليمنيين إلى ثورات الخوارج ضد الأمويين لا سيما في العراق..مما جعلهم في مواجهة مباشرة مع النظام.

على الجانب الآخر..تعامل معاوية بحذر مع زعماء اليمنيين الذين أظهروا ميولاً معارضة لحكمه، فقام بتهميش بعضهم سياسياً، ومنع وصولهم إلى المناصب العليا في الدولة، كما مارس سياسة التوازن بين القبائل لمنع تكتلهم ضده، إذ كان يحرص على إبقاء الصراع بين القيسية واليمانية داخل الدولة الأموية لضمان عدم ظهور قوة قبلية واحدة قادرة على تهديد الحكم...وقد استمرت هذه السياسة لاحقًا مع الخلفاء الأمويين، وكانت أحد العوامل التي أسهمت في اشتعال النزاع بين القيسية واليمانية، والذي أضعف الدولة وأدى إلى سقوطها في النهاية.

وعلى الرغم من أن بعض القبائل اليمنية استفادت اقتصادياً من علاقتها بمعاوية على شكل عطايا ومناصب في الدولة، إلا أن اليمن كإقليم لم يحظَ باهتمام تنموي كبير في عهده ؛ إذ ظل نفوذ الحكم الأموي يتركز في الشام والعراق.. بينما بقيت اليمن منطقة طرفية من الناحية السياسية رغم أهميتها القبلية.

وهكذا..فإن علاقة معاوية باليمنيين لم تكن علاقة موحدة أو ثابتة، بل تفاوتت بين الدعم القوي من بعض القبائل، والمعارضة الحادة من أخرى. وقد استمرت هذه التناقضات داخل البيت الأموي حتى سقوط دولتهم حيث لعب اليمنيون الدور الأبرز في نصرة الدعوة العباسية ضد الأمويين؛وكانت بعض القبائل اليمنية مثل همدان وخولان، من أوائل الداعمين للعباسيين مما عجل بانهيار الدولة الأموية.


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار