الجمعة 29 مارس 2024
الرئيسية - ثقافة وفن - قطوف الحكمة من شعر البردوني: "لا يعرفُ اللهَ من لم يعشقِ الوطنا"
قطوف الحكمة من شعر البردوني: "لا يعرفُ اللهَ من لم يعشقِ الوطنا"
عادل الأحمدي قطوف الحكمة من شعر البردوني
الساعة 08:58 صباحاً (متابعات خاصة)

عادل الأحمدي

أول حكمةٍ استفدتها خلال ليلة تاريخية، قرأت فيها هذا المجهود العظيم، هو أن مشكلتنا الكبيرة أننا لا نقرأ. ودعوني هنا أستخدم التعميم؛ أي بمن فينا نحن الذين يزعمون أنهم يحيطون علما بشعر البردوني. فكثير منا لاتزال استشهاداته بشعر البردوني محصورة على قصائد شهيرة له.



 

اليوم، وبعد أن أكملت قراءة ديوان الحكمة البردونية، أدركت أنني لم أكن أعرف البردوني جيدا، وكنت قبلها أحسبني ممن يعرفون شعره. والفضل في ذلك، يعود للمجهود الذي بذله الأستاذ الشاعر والكاتب والأديب القدير أمين الوائلي، طيلة خمس سنوات، لكي يقتطف لنا عيون الحكمة من شعر جوّاب العصور، وقد أكد في صفحات الكتاب الأخيرة، أن شعر البردوني كله حكمة، وأنه لو أراد إنصاف البردوني لأعاد طبع أعماله الكاملة، حتى يبدو غير مقصرٍ في اختياراته.

 

"من أرض بلقيس"، بدأت رحلة الحكمة مع شاعرٍ أعلن في أول قصيدة له، ميلاد شاعرٍ كبيرٍ، قائلاً: "من أرض بلقيس هذا اللحن والوترُ"، وكأن الرائي البردوني، كان يعرف مسبقاً امتداد مسيرته الشعرية العظيمة القادمة التي سوف تلي ذلك الديوان، تماماً كما هو حاله في استقراء العديد من الأحداث والمآلات.

 

وأن تقرأ له من أول ديوان؛ هذا الكم الكبير من الحِكَم، فهذا دليل عبقرية هذا الشاعر المبكرة، الذي ولد مكتمل التجربة منذ بواكير شعره، وهي مرحلة لا يصل إليها الناس والشعراء إلا بعد مراحل من العمر. ذلك أن الحكمة زبدة الصراع بين الإنسان والحياة، ولا يتنزع حكمة هذا الصراع، إلا الذي اطمئن إلى دقة خلاصته، وامتلك ناصية التعبير عنها، ولقد حاز البردوني كل هذا.

 

ليس هذا فحسب؛ بل لقد قدّم البردوني الحكمة في قوالب جديدة، لم تعهدها العربية من قبل، فكان أحياناً يقولها على لسان الآخرين داخل قصائده. كما كانت الحكمة تأتي على شكل سؤال وأحياناً على شكل جواب وأحياناً تلبس ثوبها التقليدي، ولكن بمعانٍ غاية في الحداثة والعمق.

 

وأنا أكمل قراءة هذا الديوان العظيم، شعرت أنها لكي تأخذ حقهاً، يحتاج المرء لكتابة دراسة كاملة كمقدمة، يتحدث فيها عن قطوف الحكمة في شعر البردوني، ومراحلها، قياساً بفتراتها الزمنية، وكذلك مجالاتها، فقد قدم البردوني الحكمة الثورية التي تطارد الخوف وتزرع الشجاعة في القلوب وتهزأ من الظلم والظالمين، وذلك في دواوينه الأولى التي سبقت الثورة، وبالتالي فقد كان حكمياته الأولى، زاداً في الطريق المؤدي إلى الـ26 من سبتمبر 1962، والذي امتد بعده خيط الحكمة البردونية، بأسلوب أكثر إبداعاً وإيناعاً في ديوان "مدينة الغد"، الذي تزامن مع معارك تثبيت الجمهورية، (وهو في تقديري ما نحتاج اليه اليوم تماما).

 

ثم راحت حكميات البردوني بعد ذلك تأخذ منحىً تصحيحياً للأمراض الجديدة في مجتمع ما بعد الثورة، حيث حارب الادّعاء والاحتيال والجشع والتصنّع، وصولاً إلى قمة الحكمة التي أودعها دواوينه الأخيرة "جوّاب العصور" الذي يقول فيه:

 

 ... دليل الإرادات ومضُ الخيال

 

ومن وجهة نظري، فقد اينعت تجربة البردوني كاملة في شطرٍ من بيتٍ في ديوانه الأخير "رجعة الحكيم ابن زايد"، بقوله "لا يعرف الله من لا يعشق الوطنا". وذلك في معترك الصراع الفكري مع طروحات جماعات دينية تميّعَ معها مفهوم الوطن. وبالتأكيد فإن البردوني لم يختر عنوان ذلك الديوان من فراغ "رجعة الحكيم"، فعملياً هو الحكيم ابن زايد، وفي نفس الديوان يقول واصفاً نفسه:

 

أعمى وزرقاء اليمامة حيّةٌ

فيهِ، ترى من "سربةَ" "الأحقافا"

 

و"سربة" تقع في ذمار بينما تقع "الأحقاف" في حضرموت.

 

*

هذا الديوان البردوني العظيم الذي جمعه أمين الوائلي "ابن حزم" العدين، يحتاج إليه كل فردٍ في المجتمع: يحتاجه القائد لأن فيه حديثاً عن خصائص القائد الحقيقي، وواجبات الريادة وتبعات ما بعد النصر:

 

إن الزعامة قوةٌ وعدالةٌ

وشجاعة سمْحا، وقلبٌ حاني

 

وقوله:

 

إن من لا يُحيي من العمر دهراً

من معانٍ، لا يستحق الولادةْ

 

خير روادِ كلّ قومٍ عظيمٌ

مات موت الندى لتبقى الريادةْ

 

كما يحتاج إليه الثائر والتاجر والطالب والمرأة وقبل ذلك كله، يحتاج إليه من يصنع الاستراتيجيا الثقافية للبلد، لأن جملة الأمراض التي عالجها البردوني حِكَمياً عبر 12 ديواناً، هي ذاتها الأمراض التي استشفها فينا كمجتمع يمني. ولهذا قلت في بداية كلامي، إننا لم نقرأ البردوني جيداً، رغم كونه الشاعر الأشهر في حياتنا، لأننا لو قرأناه لما استمرت تلك الأمراض تقيّد حياتنا حتى أطل لصوص الحياة من جديد، ووقعت البلاد بين عشية وضحاها في يد غرمائها التاريخيين.

 

إلى ذلك، يهدي البردوني في هذا الديوان، الذي جمعه الأستاذ الوائلي، حِكماً للحكماء:

 

وإذا صارعت قوى العقل قلباً

عبقرياً زادت قواه قواءَ

 

ويذكر أيضاً أهمية الحكيم والفيلسوف في أي مجتمع حيث يقول:

 

لن تكوني باريس من غير "روسو"

لن تكوني بلا "أرسطو" أثينا

 

وكمثال على عبقرياته الحكمية التي تجمع بين عمق الدلالة وحداثة التشبيه:

 

هذي الفجاج كأنثى ما لها رحمٌ

هذا الزحام رجال ما بهم رجلُ

 

يمضون يأتون كالأبواب ما خرجوا

من أي شيءٍ ولا في غيره دخلوا

 

*

الحكمة "ضالّة المؤمن"، وهي ذروة سنام الشعر، وزبدة تجربة الكاتب والشاعر والأديب، وحِكَم البردوني ليست على نسق "لامية العرب" وإن كان فيها أحياناً سياقات مشابهة، كما أنها أيضا ليست على طريقة صالح بن عبدالقدوس الوعظية، ولا تقريرية زهير بن أبي سلمى، ولا جفاف المعري. البردوني حكمتُه تشع بالدهشة الشعرية والفتح الشعري المبين، وبالتالي فقد أعطى الحكمة ضوءاً إلى ضوئها، إضافة إلى أنه كما أسلفنا قولبها في قوالب لم تعهدها العربية من قبل:

 

لا اجتدي منك السنا مادام لي

شوقٌ، فسوف يضيئُني إحراقي

 

ليست أبيات ديوان الحكمة لدى البردوني، عبارة عن خلاصات حكمية حياتية يانعة وحسب، بل إن المجهود المبذول أمامنا يحفل بالعديد من اللآلئ المبنية على تأمل عميق وفلسفة مغايرة، وذلك في جوانب عدة من الحياة، يصلح كل جانب منها، أن يكون موضوع دراسة مستقلة. فمثلاً أثناء تتبعنا لرؤيته لمفهوم الزمان نجده

 

 


آخر الأخبار