الجمعة 29 مارس 2024
من دين الآخرة إلى دين الدنيا
الساعة 08:44 صباحاً
توفيق السيف توفيق السيف

بعض القراء الأعزاء الذين جادلوا مقال الأسبوع الماضي، استغربوا ما ظنوه إنكاراً لاهتمام الإسلام بالحياة الدنيا، مع كثرة التعاليم الدينية التي تؤكد الموازنة بين الدنيا والآخرة، وبين المادي والروحي في حياة البشر.

والحق أن هذا لم يكن محل اهتمام المقال، بل كان غرضه تأكيد المصلحة العقلائية معياراً لاختبار سلامة الخطاب الديني، بكل ما فيه من أحكام فقهية أو تفسير للنص أو توجيه عام.

يهمني هنا إيضاح الفارق بين ما نسميه «الدين» أي ما أراده الله لعباده، وما نسميه «المعرفة الدينية»، أي فهم الناس لمراد الخالق. إن حديثنا يتناول فهم الناس وليس مراد الخالق سبحانه. وهذا يشمل - للمناسبة - الآيات والروايات التي يعرضها بعض المحتجين دليلاً على رأيهم. لأن الفكرة التي تتضمنها الآية أو الرواية، قد تطابق المعنى الذي يحتجون له، وربما تختلف عنه. إن تماثل الألفاظ لا يدل دائماً على اتحاد المعنى. ودلالة اللفظ وحدودها وقيودها، موضوع لبحث عميق ومطول، يشكل الجزء الأكبر من جدالات أصول الفقه، وهي أكثرها تعقيداً.

إطار النقاش إذن هو اجتهاد البشر ومحاولاتهم لفهم الأمر الإلهي، وليس مراد الخالق ذاته.

أودُّ الإشارة أيضاً إلى أن موقف كل طرف في هذا النقاش، مسبوق بموقف فلسفي إجمالي، يتلخص في السؤال الآتي: هل جاء أمر الله لإصلاح الدنيا أم الآخرة؟ فمن يرى أن غرض الدين هو إصلاح الدنيا، يعتبر النجاح الأخروي بديهياً لمن أحسن العمل في دنياه، حتى لو لم يكن الفوز الأخروي غرضه الوحيد أو الرئيسي.

وبعكس هؤلاء، فإن الذين اعتبروا غاية الدين هي الفوز الأخروي، قرروا أيضاً أن الدنيا ممر مؤقت. فنسبتها إلى الآخرة نسبة الوسيلة إلى الغاية، أو نسبة الظل إلى الأصل. وحسب تعبير الإمام الغزالي (ت - 1111م) فإن «أكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها، ودعوتهم إلى الآخرة. بل هو مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم يبعثوا إلا لذلك».

الفرضية المسبقة لهذه المقالة هي الموقف الأول، أي القول إن غاية الشريعة صلاح الدنيا، وإن النجاح الأخروي تابع لها، وهو - كما يتضح - نقيض رأي الغزالي رضوان الله عليه.

سوف أستعرض في مقالة مقبلة أمثلة توضح انعكاس كل من الرأيين. لكني أكتفي هنا بالإشارة إلى تأثير كل منهما على منهج البحث والنظر. وأمامي مثال الجدل حول التبرع بالأعضاء وزرعها. وهو نقاش مضى عليه عقدان وما زال قائماً. فقد لاحظت أن الداعين لتجويزه، استخدموا أدلة عقلائية بسيطة، هي مصالح دنيوية، كالقول إن العضو الذي تهديه في حياتك أو بعد مماتك، سيمنح حياة جديدة لمريض مهدد بالموت، وأن الإنسان يملك جسده، فله حق التبرع ببعضه.

أما الفريق الثاني فقد بنى موقفه الرافض أو المتردد، على أحاديث نبوية، «يدل مضمونها» على حرمة التبرع بالأعضاء (لأن المتبرع لا يملك جسده)، أو حرمة مقدماتها (مثل التقطيع الذي يعتبرونه مصداقاً للمثلة المحرمة).

بعبارة أخرى، فإن الفقهاء لا يجادلون أدلة الفريق الأول، بل يعرضون أدلة تنتمي إلى عالم مفهومي وقيمي مختلف (غير دنيوي). وبالمثل، فإن الفريق الأول لا يرتاح لأدلة الفقهاء، رغم أنها مدعومة بروايات منسوبة للنبي (صلى الله عليه وسلم). هذا يكشف عن الفجوة الفاصلة بين الخطاب الديني التقليدي وحاجات زمنه. ولنا عودة إلى الموضوع في مقال مقبل بعون الله.


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار