آخر الأخبار


الجمعة 18 ابريل 2025
بقلم: فاطمة أبو الأسرار*
إذا شعرت بالحيرة من تقرير التلغراف حول "تخلي" إيران عن الحوثيين، فأنت لست وحدك. هذه الرواية تمثل بالضبط نوع الغموض الاستراتيجي الذي طالما اعتمدت عليه إيران، إذ تدعو إلى التكهن بينما تخفي نواياها الحقيقية. لكن هذه اللحظة لا تتعلق فقط بالمعلومات المضللة، بل تتعلق بالإشارات. المصدر المجهول الذي سرّب العنوان يبدو وكأنه يعرض تصوّرًا للضبط، ليس لتغيير الحقائق على الأرض، بل لشراء الوقت، واختبار ردود الفعل، وصياغة كيفية قراءة تلك الحقائق في واشنطن والرياض وما وراءهما.
ورغم أن إيران قد أعادت تموضع بعض أفرادها كما تزعم التلغراف، فلا يوجد دليل موثوق يشير إلى سحب الدعم من الحوثيين أو "تخلي" شامل عنهم. فلا يزال لطهران سفير في صنعاء يقدّم المشورة للحوثيين، كما تحتفظ بحضور عملياتي سرّي مهم في اليمن عبر فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني. علاوة على ذلك، فإن اللواء عبد الرضا شهلائي، وهو قائد كبير في فيلق القدس ينشط في اليمن منذ عام 2011 أو 2012، يشغل منصبًا في مجلس الجهاد التابع للحوثيين. ويرتبط وجود الحرس الثوري الإيراني في اليمن بما يُعرف بـ"الفرع 6000"، المسؤول عن العمليات في شبه الجزيرة العربية.
رواية "التخلي" ليست تشويهاً منعزلاً. ففي العراق، تشير تقارير رويترز الأخيرة إلى احتمال نزع سلاح بعض الميليشيات، لكنها تذكر أيضًا أن هناك تفكيرًا في "تحويل هذه الجماعات إلى أحزاب سياسية ودمجها في القوات المسلحة العراقية" — وهو ما يعني ترسيخ نفوذها، لا تقليصه. هذا جزء من نمط أوسع من الإنكار المعقول الذي أتقنته إيران في جميع أنحاء المنطقة. ففي سوريا، وُصف وجودها بـ"الاستشاري" رغم أنها بنت قواعد عسكرية راسخة. وفي العراق، غيّبت الحدود بين الدولة والميليشيا. أما في اليمن، فقد نضجت الوهم: فلم تعد إيران بحاجة للدفاع عن دورها. بل إن الآخرين يفعلون ذلك نيابة عنها.
الرواية الإيرانية التي نقلها هذا المصدر المجهول ربما تكون تسريبًا لاختبار ردود الفعل، وتسعى في الوقت ذاته لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية: منح الإدارة الأمريكية "نصرًا رمزيًا"، وخلق مساحة لإيران للمناورة بشأن تخفيف العقوبات وطموحاتها النووية دون تقديم تنازلات، وإيصال رسالة للمراقبين الدوليين بأنها قادرة على ضبط النفس. هذا ليس استسلامًا ولا اعترافًا بحدود طهران مع وكلائها؛ بل هو دبلوماسية عبر العناوين الرئيسية.
ديناميكية الحوثيين وإيران
عند مواجهته بتقرير التلغراف، سخر مسؤول حوثي بارز من فكرة أن إيران أرسلت أفرادًا إلى اليمن. وأكد وزير الخارجية الحوثي جمال عامر لوكالة رويترز أن "إيران لا تتدخل في قراراتنا، بل تتوسط أحيانًا." ولم يُذكر أي انسحاب للدعم الإيراني، بل استمرار في الاصطفاف ضمن شبكة "محور المقاومة" التي تقودها إيران. وللحوثيين، الذين يفخرون بدورهم في ذلك المحور، فإن الاعتراف بالاعتماد على طهران سيكون علامة ضعف. أما إنكار ذلك، فيعزز سردية مفيدة لكلا الطرفين.
ومن المفارقة أن طهران لطالما زعمت أنها لا تلعب دورًا مباشرًا في اليمن، وهو موقف يفتقر إلى المصداقية بالنظر إلى تسليح الحوثيين المتقدم، وتدريبهم العسكري، وتطابق رسائلهم الإعلامية مع إيران. ففي مارس الماضي، أكد المرشد الأعلى علي خامنئي أن الحوثيين يتصرفون باستقلالية، بينما يحتضنهم في الوقت نفسه كأعضاء أساسيين في "محور المقاومة". وبما أن إيران تتعمد التعتيم على سيطرتها التنسيقية والعملياتية، أصبحت حالة الحوثيين بمثابة اختبار جيوسياسي يعكس تحيزات المراقبين أكثر مما يكشف الحقائق على الأرض. هذا الغموض المتعمّد ليس خللاً، بل ميزة في الاستراتيجية الإيرانية الإقليمية.
ومن بين أكثر الأوهام تكرارًا في مراقبة ديناميكيات إيران-اليمن، هو الزعم بأن طهران تحاول "ضبط" الحوثيين. هذه السردية، التي يكررها المسؤولون الغربيون والمحللون، تصوّر الحوثيين كجهات متهورة تتصرف خلافًا لنصائح إيران، في حين أنهم في الواقع جزء من بنيتها الإقليمية. إنها مزاعم غير مثبتة، لكنها مفيدة جدًا. فهي تبني أسطورة "الاستقلال الحوثي" وتحمي إيران من تبعات تحالفها مع الجماعة.
"نصر" لترامب؟ خطر سوء فهم الإشارات الاستراتيجية
يبدو أن نهج ترامب خلق حسابات جديدة في طهران. فبعد أن أمر الرئيس الأمريكي في مارس 2025 بشن "عمل عسكري قوي وحاسم" ضد أهداف حوثية في اليمن، محذرًا من أن "الجحيم سينهمر" إذا استمرت الهجمات، رد المسؤولون الإيرانيون بمزيجهم المعتاد من التحدي والحذر. هذه اللهجة التصعيدية، إلى جانب "النهج الأكثر عدوانية" الذي تتبعه إدارة ترامب، والذي يستهدف طيفًا أوسع من أصول وأفراد الحوثيين، خلقت ضغطًا استراتيجيًا تواجه إيران صعوبة في مواجهته. وبينما تحافظ طهران علنًا على موقف التحدي، فإن أي محاولة لسحب أفراد الحرس الثوري من اليمن تعكس في الواقع رغبة في تجنب تعريض الأصول المهمة لنيران أمريكية مباشرة.
تصور وسائل الإعلام الإيرانية ترامب على أنه شخصية متهورة غير استراتيجية، مدفوعًا بالغرور والاستعراض أكثر من كونه يتبع سياسة متماسكة. ويُصوَّر على أنه يفتقر للفهم العسكري والسياسي، ويتدخل بتهور لا بدافع القوة، بل من منطلق التهويل واليأس. ومن هذا المنطلق، فإن سردية "التخلي" تقدم له نصرًا مُعلبًا، من شأنه تقليل الضغط عن طهران ووكلائها. لكن فكرة أن إيران تخلت عن الحوثيين دون أن تقيّدهم تكشف زيف موقف طهران. فترامب أعلن بوضوح أنه سيحمّل إيران مسؤولية "كل رصاصة يطلقها الحوثيون"، ما يجعل مجرد الانسحاب بلا معنى. فالتخلي الحقيقي يتطلب وقف الهجمات الحوثية. أما ما تفعله طهران، فهو محاولة نيل الفضل في ضبط النفس بينما تترك وكيلها يواصل العمليات. إنها تريد الأمرين في آنٍ واحد.
ورغم هذا التناقض المنطقي، فقد اكتسبت حملة التضليل زخمًا في الأوساط الإعلامية، حيث كرر كثيرون رواية "التخلي" دون تمحيص، في حين تواصل إيران دعمها العملياتي للقوات الحوثية.
التحالف الوكيل الجديد: روسيا، الصين، وإيران
بينما تم تضخيم "الانسحاب" الإيراني، من المهم أيضًا فهم ما يملأ هذا الفراغ المُتصور. فالنمو المتزايد لنفوذ روسيا والصين يوفر للحوثيين قنوات دعم بديلة تُكمل، ولا تُستبدل، بالدعم الإيراني. وتشير التقارير إلى تعاون متزايد مع موسكو، بما في ذلك وجود خبراء عسكريين روس في صنعاء يقدمون المشورة في مجالات التسليح وتحديد الأهداف.
أما الصين، ذات المصالح الاقتصادية في البحر الأحمر من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، فتعتمد توازنًا دبلوماسيًا، تدعو إلى التهدئة، وتطرح نفسها وسيطًا. ولا يمثل ذلك تحولًا عن إيران، بل يعكس استراتيجية حوثية لتنويع مصادر الدعم، مما يخلق شبكة دعم أكثر تعقيدًا يصعب على الولايات المتحدة تفكيكها.
وبدلاً من رؤية الأمر كمعادلة صفرية بين طهران وموسكو وبكين، ينبغي النظر في كيفية تكامل هذه القوى: إيران تقدم التماسك الأيديولوجي، والدعم الإعلامي، والدور القيادي؛ روسيا توفّر الخبرة العسكرية والتغطية الدبلوماسية؛ الصين تضيف العمق الاقتصادي والشرعية العالمية.
ويتجلى هذا التكامل في تدفقات المواد إلى مناطق الحوثيين. ففي مارس 2025، اعترضت السلطات اليمنية 800 مروحة طائرة مسيّرة صينية الصنع كانت في طريقها إلى الحوثيين عبر معبر صرفيت الحدودي مع عُمان، وهو مسار لطالما استغله الحرس الثوري الإيراني خلال الصراع. وفي أغسطس 2024، صادرت السلطات أيضًا خلايا وقود هيدروجيني صينية، وهي تكنولوجيا تتيح للطائرات المسيّرة الطيران على ارتفاع أعلى ولمدى أطول وبدقة أكبر. ويُرجح أن تُمكن هذه الطائرات من تحديد أهداف على بعد أكثر من 100 ميل، مما يعزز بشكل كبير من قدرة الحوثيين الهجومية.
وفي الأثناء، ضمنت الصين وروسيا مرورًا آمنًا لسفنها عبر البحر الأحمر، وهو امتياز لم يُمنح لغالبية الدول الأخرى التي لا تزال سفنها عرضة للهجمات الحوثية.
ولعل ما هو أكثر دلالة، أنه في 22 مارس 2025، رُصد مؤثرون مقربون من الحكومة في موسكو وشخصيات بارزة من الصين في صنعاء وهم يحضرون مؤتمر تضامن مع فلسطين بدعوة من الحوثيين. لم يكن وجودهم عرضيًا، بل إشارة إلى اصطفاف دبلوماسي متنامٍ بين هذه القوى، وقد تم تنظيمه بعناية.
التعاون الثلاثي الناشئ بين إيران وروسيا والصين، بهذا الشكل شبه العلني، هو استثمار استراتيجي في الشرق الأوسط تقوم به هذه الدول من أجل مستقبل طويل الأمد يضمن استقرار سلطاتها الاستبدادية.
كل هذا يمنح الحوثيين ميزة في إدارتهم لشبكة معقدة من التحالفات المتشابهة فكريًا، كل منها يقدم موارد تكميلية: اصطفاف أيديولوجي ودعم جيوسياسي قوي من إيران، خبرة عسكرية من روسيا، وقدرات اقتصادية وتكنولوجية من الصين. وقد يُمثل هذا النموذج من "الرعاية الموزعة" مستقبل الحروب بالوكالة في المنطقة، حيث يخلق تكرارًا في مصادر الدعم، ومرونة، وقدرات موسعة، بينما يشتّت المسؤولية ويقلّل من إمكانية تحميل طرف بعينه المسؤولية.
ما القادم؟
في هذه الأثناء، تخفي إيران قلقًا متصاعدًا خلف غموضها الاستراتيجي، قلقًا من عدم قابلية ترامب للتنبؤ وعدائه المُعلن للنظام. فعندما شنّت القوات الأمريكية ضربات ضد مواقع للحوثيين في مارس، أصدر قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي تصريحات متناقضة، مهددًا بردود "حاسمة ومدمرة"، بينما نفى في الوقت ذاته أي سيطرة على وكلائه في اليمن. وكالعادة، يكشف هذا التناقض عن الطريقة التي تستخدمها إيران في التظاهر بالقوة من خلال الخطاب، بينما تتجنب بعناية أي مواجهة مباشرة قد تهدد بقاء النظام.
وقد أصبح هذا التوازن الحذر أكثر صعوبة مع انهيار استراتيجية "المنطقة الرمادية" الإيرانية تحت وطأة الاختلال الاقتصادي الداخلي والتشتت السياسي. ومع تزايد الضغوط الاقتصادية في الداخل، وتراجع الحلفاء الإقليميين مثل حزب الله وحماس، لا تستطيع إيران تحمّل مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع التخلي عن استراتيجية الوكلاء دون أن تفقد هيبتها ونفوذها. ولهذا تُوفّر رواية "التخلي" مهربًا يحفظ ماء الوجه، فتبدو إيران وكأنها تستجيب للضغوط الأمريكية، بينما تواصل الحفاظ على أهم أصولها الاستراتيجية ونفوذها الإقليمي.
أما بالنسبة لواشنطن، فالمعضلة لا تتعلق فقط بكيفية وقف إيران، بل بكيفية فعل ذلك دون تعريض المنطقة بأكملها للخطر. فمبدأ الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان في مواجهة النفوذ المعادي من خلال الحضور المستمر وبناء التحالفات قد تآكل منذ فترة طويلة. وعلى الرغم من موقف إدارة ترامب الحازم تجاه إيران، من خلال الانسحاب من الاتفاق النووي لعام 2015 وحملة "الضغط الأقصى"، إلا أن طهران نجحت في استغلال التقلّبات بين الإدارات الأمريكية لتعزيز نفوذها الإقليمي عبر وكلاء مثل الحوثيين، الذين يسيطرون الآن فعليًا على ممرات بحرية حيوية ويهددون خطوط الشحن العالمية دون أن يواجهوا عواقب تُذكر.
وبدلاً من تفسير تغير الرواية الإيرانية كعلامة على الانفصال، قد نراها كتناقض مُصطنع، حاضر مشوَّه يدعو إلى التفسير الخاطئ بينما يُبقي على مراكز القوة. ما يبدو ضبط نفس، هو في كثير من الأحيان مجرد تسوية رمزية بدلاً من تحول استراتيجي حقيقي. هذا ليس انسحابًا. إنه رواية تكتيكية.
وما يُدهش أكثر... أن القصة تنجح.
* فاطمة أبو الأسرار: هي كبيرة المحللين في المركز الأمريكي للدراسات اليمنية، وعضو مجلس مبادرة مسار السلام.
ساعة ونصف من الضجيج الأجوف؟!
الجنرال: الزمن… يتهيأ لدخول صنعاء
عن المخاوف السعودية الاماراتية من الهجوم البري
إيران.. التفاوض قرب حاملة الطائرات
من الخندق إلى الطوفان