آخر الأخبار


الجمعة 23 مايو 2025
قبل كارل ماركس كان عبد الرحمن بن خلدون يرى أن عوامل العمران تؤثر بشكل كبير على طبائع الناس وأخلاقهم وطرائق تفكيرهم، حيث تعيد العوامل المادية تشكيل وعي الناس وقيمهم ومثالياتهم، حسب التصور المادي، مع فارق ملحوظ بين الفلسفة الخلدونية التي لا تنكر دور المثاليات في حركة التاريخ والأخرى المادية التي تعلي من شأن العوامل المادية في تلك الحركة.
يقول ابن خلدون إن «للبقاع تأثيرا على الطباع، فكلما كانت البقعة من الأرض نديّة مزهرة أثّرت على طبع ساكنيها بالرِّقّة»، وفي ذلك إشارة لتأثير العوامل المادية الطبيعية (البقاع) على التكوين الفكري والقيمي للإنسان (الطباع) في تشابه جزئي بين الخلدونية والماركسية، ألمح إلى شيء منه محمد عابد الجابري في بعض كتاباته.
خلال العقود الماضية ضربت موجة «الترييف» مدناً عربية كبيرة، وقد نتجت تلك الموجة عن عوامل طبيعية وبشرية مختلطة: فإهمال الأرياف أدى إلى نزوح أهلها إلى المدن، بحثاً عن فرص عيش أفضل، وبما أن عماد الريف الزراعة، وبما أن الكثير من المنتجات الزراعية تم توفيرها من الخارج، فقد انحسرت المساحات الزراعية، ومع الزمن زحفت موجات الجفاف على الريف، لتطرد كثيراً من أهله إلى المدينة.
البعض يرى أن هجرة سكان الريف إلى المدن كانت بسبب جفاف الريف، وآخرون يرون أن جفاف الريف كان بسبب إهماله، نظراً لعدم الحاجة إلى منتوجاته، بعد توفرها من الخارج، وأياً ما يكن السبب والنتيجة فإن المحصلة كانت موجات زاحفة من أقاصي الأرياف إلى مدن ليست مهيأة لهذه الموجات الكبيرة.
عندما وصل أبناء الريف إلى المدن على مدى العقود الماضية تكاثروا في مناطق معينة، على هامش المدينة، وفي الضواحي، ومع الزمن تشكلت مجتمعات محلية شبه مغلقة أو منعزلة عن قلب المدينة، وأسهم الزمن في نوع من الاحتكاك غير الحميد بين قيم وقيم، أو بين طبائع وطبائع، ولم تستطع المؤسسات الخدماتية استيعاب القادمين إلى المدينة، الأمر الذي شكل «حالات اكتظاظ» فاقمت التوترات التي كانت تعتمل مع الزمن إلى أن وصلنا إلى الانفجار الكبير مطلع العام 2011 في أكثر من مدينة عربية.
نعود لابن خلدون الذي يقول إن «الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ إن تستحكم فيها دولة»، وهي مقولة دقيقة تسلط الضوء على حركة الصراع المحرك للتاريخ، حسب تصور ماركس.
وبإسقاط مقولات ابن خلدون على واقع المدينة العربية في العقود الماضية، فإن هذه المدينة مع موجات الهجرة إليها أصبحت «وطن كثير من العصائب والقبائل»، ومع الكثرة المكتظة، والازدحام المختلف، لم يتسنَ لـ«القبائل والعصائب» أن يعاد إدماجها بشكل سلس، بسبب ضعف المؤسسات الخدمية من تعليم وثقافة، وصحة وإسكان وطاقة وغيرها.
ومن هنا تولد الصراع الذي نتج عن عدم قدرة الدولة على «التحكم»، حسب الوصف الخلدوني الذي شخص الصراع على أساس أنه نتيجة لكثرة التناقضات، وقد كان تحليل ابن خلدون مدهشاً، في إسقاطه على الحالة المعاصرة، وكأن ابن خلدون كان قد نصب خيمته، ليراقب ساحات الاحتجاج التي حفلت بمئات آلاف المحتجين من «القبائل والعصائب»، الذين خرجوا في حالة من الاندفاع يريدون «إسقاط النظام».
وبالطبع فإن ابن خلدون – عندما يحلل – لا يدافع عن الأنظمة، ولا يتهم الثورات بتخريب العمران، ولكنه يعرض سنن التاريخ وقواعده الصارمة، وحركته الحتمية، وهو الذي قال: «الظلم مخرّب للعمران، وإنّ عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض»، وهنا ملمح ذكي في الوقت ذاته، إذ أن الفساد لا يكون إلا في «الدول الفاشلة أو الآيلة للفشل»، حيث ضعف المؤسسة، وتغول الفرد، ومع حضور «الذات الطامعة» وغياب «المؤسسة الناظمة» تتشكل البيئة المناسبة للفساد الناتج عن سقوط المؤسسة التي كان الظلم سبباً من أسباب سقوطها، لتستمر قصة التأثر والتأثير في متواليات حسابية لا تنتهي.
وكأننا بابن خلدون يقول إن ظلم الدولة – كذلك – ولد «تمرد القبائل والعصائب»، وإن هذا التمرد نتج عنه «خراب العمران»، وهذا الخراب – بدوره – كان فرصة مواتية «للفساد والانتقاض»، حيث تؤدي الثورات المتلاحقة، والصراعات المستمرة إلى بيئة مريضة، يصعد فيها الطفيليون، ويتسلق الفاسدون، دون قدرة على إيقافهم، كما قال ابن خلدون: «عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والأفاقون والمتفقهون والانتهازيون، وتعم الإشاعة وتطول المناظرات، وتقصر البصيرة، ويتشوش الفكر»، ذلك أن الشعوب حينها تكون في حالة من المرض أوصلتها إلى ضعف أفقدها مناعتها، وهنا يطل ابن خلدون مرة أخرى في عبارته الشهيرة عن أن «الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها».
وها نحن اليوم نرى ثائرين خرجوا ضد «أنظمة فاسدة»، فلما حل الثائرون محل الفاسدين، شكلوا أنظمة أكثر فساداً من الأنظمة التي ثاروا عليها، لدرجة أن كثيرين اليوم يترحمون على الأيام الجميلة التي عاشوها مع الأنظمة التي سقطت.
أين الخلل؟ هل كان في الأنظمة، أم كان في الثوار، أم أنه كان في العوامل والظروف التي أدت إلى تغيير في أنماط سلوك الناس، وتحول كبير في القيم والمفاهيم ووسائل العيش والإنتاج؟
إذا كانت تلك هي أسئلة اللحظة فإن الإجابة تتطلب وقتاً، وهي تتمحور حول عوامل الصراع كما يراها ابن خلدون، وهي عوامل يتداخل فيها الطبيعي الذي لا يد للإنسان في مدافعته، والبشري الذي يتسبب به الإنسان، فالجفاف ـ مثلاً ـ ظاهرة طبيعية، ولكن إهمال الريف فعل بشري، وبما أن الأمور جرت على ما بدأنا به المقال، وبما أن عشوائية «ترييف المدينة» أصبحت بديلاً عن استراتيجية «تمدين الريف» فإن النتيجة كانت حتمية في صراع «القبائل والعصائب»، داخل المدينة، وبالتالي ضعف تحكم الدولة في مكوناتها المجتمعية، الأمر الذي أدى، ليس إلى سقوط النظام وحسب، ولكن إلى سقوط الدولة، والإنذار بتحلل المجتمعات والشعوب.
نقلا عن "القدس العربي"
ابن خلدون في قلب صراعاتنا
ماذا يحدث في صنعاء؟!
الوحدة المغتصبة والانفصال المغرر به!
فخ الحماقة الذي طالما أبطل فعل الحكمة
سبتمبر أهم؟!