«قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ»
2015/07/13
الساعة 01:32 صباحاً
lass="author">د. حسناء عبدالعزيز القنيعير
لا يمثل الهجوم وكيل التهم سلوكًا دينياً أو عملًا وطنيًا، أو شهامة أو مروءة، بل هو عمل لا يمنح صاحبه أيّ تفوق أو تميز على الآخرين، ويضعه في موضع من يستحق الشفقة، لأنه يهاجم من لا يستطيع الردّ عليه
من أين جاءتنا ثقافة التشفي والشماتة والتخوين والبذاءة في القول وتصيد الهنات؟ ثقافة لا يوجد في قاموسها غير مفردات ومصطلحات لم تألفها بلادنا قبل التحزب والحزبيين.. كان المجتمع يقوم على المودة والتراحم والاحترام ولغة العقل، وكان أئمة المساجد يعملون على توحيد صفّ الأمة، ولا يستخدمون منابرها إلا في عبادة الله، وكانت حلقات التدريس في المساجد لا تُعنى إلا بالتدريس، ولم يكن هناك دعاة يتحدثون في كل شيء كما هي الحال اليوم، لذا لم يُعرف عنف الخطاب الذي سنه الدعاة ونجوم الفضائيات والمخيمات الدعوية، الخطاب الراهن الذي لا يوفر صغيرًا ولا يوقر كبيرًا، ولا يرحم ميتاً، فمن أين أتى كل هذا العبث ليحتل ثقافتنا ويصبح نهجًا وسلوكًا ومصدرَ تفاخر واستعراضَ قوة؟
كل ما سبق خلق وضعاً لا يليق بمسلم تجاه أخيه المسلم، لأنه من صفات الأعداء الذين حذر الله منهم ووصفهم بقوله: "إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا"، ما أشبه هؤلاء بالنسوة اللاتي شمتن بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الكلبي: "لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم شمتت به نساء كندة وحضرموت، وخضبن أيديهن وأظهرن السرور لموته وضربن بالدفّ".
لا يمثل الهجوم وكيل التهم سلوكًا دينياً أو عملًا وطنيًا، أو شهامة أو مروءة، بل هو عمل لا يمنح صاحبه أيّ تفوق أو تميز على الآخرين، ويضعه في موضع من يستحق الشفقة، لأنه يهاجم من لا يستطيع الردّ عليه.
يتحدث الشيخ خالد بن عثمان السبت عن أخلاق الكبار، ويعني بهم أصحاب النفوس الكبيرة، الذين يحلّقون عالياً، ويترفعون عن الدنايا وسفاسف الأمور، وتعلو هممهم عن الدوران في الوحل والحضيض!
ويضرب مثلا بابن تيمية "الذي أوذي ورُمي بالعظائم، وكان من ألد أعدائه رجل من فقهاء المالكية يقال له ابن مخلوف، الذي مات في حياة ابن تيمية، فعلم بذلك تلميذه ابن القيم، فجاءه مبشراً بموت ألد أعدائه، فما كان من ابن تيمية إلا أن نهره وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له"! كان هذا فعل ابن تيمية الذي تتلمذ على فكره معظم أولئك الشتامين مع عدو أساء له وأوصى السلطان بقتله، فما بالهم لم يقتدوا به، وشحذوا سكاكينهم لتصفية حساباتهم مع العهد السابق كما اصطلحوا على تسميته؟
بل لم يقتدوا بفعل رسول الله مع عبدالله بن أبي رأس المنافقين الذي سعى بالإفك، فحينما مات أعطى ابنه قميصه ليكفن به، وقام على قبره يستغفر له حتى نهاه الله عزّ وجلّ عن ذلك بقوله: "إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أعلم أني لو زدت على السبعين غُفر لهم لفعلت"! كان هذا فعل رسول الله مع رجل آذاه وآذى المؤمنين، ومع ذلك عفا عنه وصلى عليه، ثم قام على قبره مستغفرا له، وهذا لا يفعله إلا الكبار ذوو الهمم العالية والنفوس السوية والقلوب الرحيمة الكبيرة! لا ذوو الميول الحزبية والأجندات المشبوهة، لخلاف في وجهات النظر لم تبلغ مبلغًا يستدعي أن يتواطؤوا جميعا على بث سمومهم.
لقد شن بعض الذين احترفوا خطاب الكراهية، وإشاعة الحقد ونشر البغضاء، حملة عبر القنوات المأجورة، قنوات الفتنة، وعبر تويتر على فترة حكم الملك عبدالله رحمه الله، فأطلقوا عليها أسماء وصفات، لم يحترموا فيها حق الأحياء والأموات، بل سدروا في غيهم، وظنوا أن تزلفهم ونفاقهم، يمكن أن يحصنهم من المحاسبة والمساءلة، إنهم أولئك الذين قال عنهم الله سبحانه وتعالى: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا".
يُعرف بعض أصحاب هذا الخطاب بأنهم لا يتركون فرصة إلا واستغلوها لإظهار أحقادهم، مثل ذاك المغمور الذي قال إن العهد السابق كانت تسوده حال من الكآبة والسوداوية، والنقمة على الدين وأهله، رجل موتور، لو علم أنه سيحاسب على قوله هذا لما تجرأ وقال ما قال، لكن هذا وأمثاله يحسبون أن سياسة الدولة لا تسير على ذات النهج، ويتجاهلون أن العهود في بلادنا متواصلة يكمل الخلف ما بدأه السلف، وهذا التصور هو الذي زين لأحدهم القول بأن قواعد اللعبة تغيرت! وهو حلم إبليس بالجنة، ذلك الحلم الذي ما انفك يراودهم لعودة جماعة الإخوان المفلسين الذين عاثوا فسادا وإفسادا في بلادنا، سيرتهم الأولى، لكن هيهات!
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن أحدهم -الذي يظهر دوما كالنائحة المستأجرة في تويتر- كان أول من اعترض على إيقاف أحد الحزبيين ومذيع إحدى القنوات، جراء تطاول الحزبيّ على عهد الملك عبدالله رحمه الله، فانتصر له الملك سلمان بإيقافهما، من حيث ظنّ الحركيّ أن ما فعله سيمر مرور الكرام! فغرّد معترضاً: "هل الرأي جريمة، هل إبداء الرأي في السياسات تعريض بالأشخاص، هل تجريم الرجال سهل، يسبقه تشبيح"، يقول هذا وقد كان أول من سارع إلى تأييد إيقاف أحد أبناء الأسرة في المجال الرياضي بقوله: ".. تصرف عقول راجحة.. لا يطفئ الفتنة مثل عقل راجح، لرجل عزيمته أمضى من السيف).. فأيّ الموقفين مثير للفتنة، ما تفوه به شخص واحد ضد آخر، أم ذلك الذي تعرض لسياسة الوطن كله في قناة، ما انفكت تستضيف أولئك الحركيين لشيء في نفوس العاملين فيها؟ الأمر الذي يؤكد عزم أحد المحسوبين على تلك القناة بعد هزيمته المدوية في البحرين، على إلقاء محاضرة اتخذ لها عنوانًا مشبوهًا يترجم محتواها حتى وإن حاول الالتفاف عليه، وتبريره تبريرًا لا ينطلي على الأذكياء، ومن يعرفون حزبيته المقيتة، وذلك بعد أن أوقفت المحاضرة التي فضح عنوانها محتواها!!
ولا يختلف عن أولئك، ذاك الذي وظف آية قرآنية لكي تعبر عما يعتمل في صدره تجاه العهد الذي اصطلحوا على تسميته بالزمن الماضي والعهد الماضي، فوصفه بأنه العهد "الذي كان فيه اندفاع لإقحام المرأة في كل شيء، فأدخلت مجلس الشورى والجامعات وغيرها، وهذا أمر خطير له آثاره..." وفي حومة اعتراضه على تمكين المرأة السعودية، للخروج بها من السجن الذي يصرون على حبسها فيه، يقحم الجامعات التي تعمل فيها المرأة منذ أزمان بعيدة ليست وليدة العهد الماضي كما سماه، فيقول: "في الماضي ما كان يؤخذ برأي كبار العلماء، يؤخذ إذا وافق رأيهم، إذا لم يوافق لا يؤخذ به "وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ* وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ"!
إنه لا يخفى على ذوي العقول الهدف من الاستشهاد بالآية الكريمة، وتوظيفها في هذا المقام، يقول أحد المفسرين المعاصرين: "إن هذه الآية من الآيات التي تصور ازدواجية أهل النفاق عندما يطلب أحدهم حكم الشرع، فإنه يحتكم إليه مذعناً، إذا علم أن الحكم لصالحه، ويرفض الحكم إذا جاء بغير ما تهوى نفسه، أي إذا كانت الحكم لهم لا عليهم جاؤوا سامعين مطيعين، وإذا كانت الحكم عليهم أعرضوا ودعوا إلى غير الحق"!
ختاماً؛ إن الحقد على الدولة والمجتمع والحكام عقيدة إخوانية، وقد انقلب السحر الإخونجي على الساحر، وانكشفت سوءاتهم للقاصي والداني "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ"!