2015/07/29
التوحش والجناية على الدين والوطن

د. عبد الله بن موسى الطاير

    لفت انتباهي تقرير أعدته الأمم المتحدة عن المقاتلين التونسيين الذين التحقوا بمناطق الصراع في الوطن العربي ويقدرون بنحو 5800 شخص باعتبارها الدولة الأولى تزويداً للحركات الإرهابية بالقوى البشرية. تونس منذ عهد بورقيبة كانت أكثر تحرراً، وأكثر انغلاقاً أمام التفسيرات التي تراها متشددة للإسلام، ولم يكن مسموحاً بدخول الدعاة، ولا بدخول الكتب الإسلامية. ولذلك فتونس سليمة من التأثر بالمنهج السعودي المزعوم، كما هي المغرب التي يوجد من مواطنيها أكثر من 1500 في داعش. المقاتلون الأجانب في داعش ينتمون إلى 81 دولة، بينهم من الاتحاد الأوروبي فقط أكثر من 2000، فهل هؤلاء جميعا متأثرون بمنهجنا الفكري؟ الأرقام ودلالاتها تشي بظلم كبير تعرضت له المملكة ومازلت بتهمة مسبقة الصنع تزعم أن الفكر السعودي هو الملهم الرئيس للتطرف. البحث والملاحظة يؤكدان أن تنظيم القاعدة لم يخرج من رحم المدرسة السعودية وإنما انقلب عليها، كما أن بربرية داعش لا تنسجم مع أدبياتنا الفكرية ومرجعياتنا العقدية والفقهية التي تدرس في مدارسنا وجامعاتنا. الدين الإسلامي دين بناء وتسامح، ولم يستقر للعرب قرار إلا به، ولم تقم لهم قائمة إلا بعد أن اعتنقوا رسالته، وما يحدث اليوم سواء في داعش أو أي من التنظيمات الإرهابية من قسوة إنما هو نكوص عن قيم الدين الحنيف إلى جاهلية ما قبل النبوة؛ فطبع الجبروت أصيل في العرب مذ كانوا يئدون بناتهم أحياء، إلى أن توقفنا في محطة داعش التي تنحر الأبرياء بمتعة. يقول ابن خلدون في مقدمته إن العرب "أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقاً وجبلةً وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب وذلك مناقض للسكون الذي به العمران". وعطفاً على نظرية ابن خلدون، وممارسات داعش في القرن الواحد والعشرين، تكون حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية حركة بناء وتحرر قامت على أساسها دولة، فبناء أمة من الأمم يحتاج إلى أيديولجيا يجتمع حولها الناس، فالرجل لم يأت بقرآن جديد، ولا بحديث مفترى على رسول الله، وإنما جمع الناس حول ثوابت تختصرها الباحثة الأميركية من جامعة جورج تاون ناتانا دي بشهادتها أن "الفتاوى والبيانات والتصريحات التي تصدر عن المنظمات الجهادية تقتبس من آخرين أكثر مما تقتبس من الشيخ محمد بن عبدالوهاب" مضيفة بأنه توجه "نحو تعليم المؤمنين العقيدة الصحيحة.. وتشجيعهم على التمسك بها في حياتهم الخاصة والعامة.. مولياً اهتماماً كبيراً بقضايا العدالة والرعاية الاجتماعية، فدعوته دعوة علم وإصلاح وتعليم منهج شرعي وتصحيح عقيدة فقط"، وتعتبر أن الحركات الجهادية المعاصرة على العكس من ذلك لا تسعى نحو تعليم الناس أو تشجيعهم على دراسة النصوص بتعمق فقد تكونت من أناس محبطين وناقمين اتخذوا الإسلام مطية لتبرير محاولاتهم.. فأغفلوا التنمية والإصلاح الاجتماعي والعلم الشرعي وأرادوا الحرب فقط". وأضافت الدكتورة ناتانا في لقاء لها مع مجلة الدعوة في عددها رقم 1899، أنه "لا يمكن القول إن جميع أتباع الشيخ يمثلون تهديداً للحضارة الغربية، كما أنه لا يمكن القول إن السعوديين كلهم صورة من أسامة بن لادن". وأذكر أن أحد المعلقين على ورقة قدمتها عام 2002م في مؤتمر في واشنطن قال بأنه قبل حضوره كان يعتقد بأن "الوهابية" حزب سياسي، وأن "الهيئة" هي الذراع العسكري متصوراً أنهم يحملون الرشاشات في الشوارع. من يكتب عنا لغيرنا؟ وماهو المتاح للباحثين من مواد قابلة للقراءة وفق المفاهيم الحديثة للمجتمعات الإنسانية، لقد كتب عن الدعوة الإصلاحية بعاطقة ومشاعر عدائية مسبقة الصنع باحثون وإعلاميون ومفكرون لم يطلعوا على مؤلف واحد للشيخ، وإنما كان جل اعتمادهم على كتابات المستشرقين الذين سجلوا انطباعات حكموا بها على فكر الشيخ دون دراسة متعمقة، ودون محاكمته وفقاً للعصر الذي ظهر فيه. ومما يؤسف له أن البعض كونوا وجهات نظرهم السلبية بناء على قراءات لكتّاب سعوديين ومسلمين انتقدوا فكر ابن عبدالوهاب بناء على قناعات شخصية وتفسيرات ذاتية مؤدلجة. وإذا كنا غير قادرين على الكتابة، فهل يمكننا الكف عن تبني طروحات يروجها أعداء المملكة، والناقمون عليها. وأزعم أنه من باب الإنصاف للإمام محمد بن سعود رحمه الله، أن يعكف الدارسون على منطلقات حركته التحررية، وتأسيسه الدولة السعودية الأولى وإسهام فكر الدعوة الإصلاحية في ذلك، وأن تكون أية مقاربة جديدة تأخذ في الحسبان ما سبق وتبع تأسيس الدولة السعودية من حركات تحررية على مستوى العالم، ودور الدين والأيديولوجيا في تلك الحركات. لقد قامت دولة مهيبة الجانب في عصورها الثلاثة وبجهود أصيلة، وهي تجربة في بناء الأمم تضاهي إن لم تفق غيرها من الثورات، وأبطالها لا يقلون عن غيرهم من الرموز التي غيّرت واقع العالم وحولت مجرى التاريخ. هل يمكن أن نغير سمة رآها ابن خلدون متأصلة في الجنس العربي؟ أعتقد ذلك، فشروط الجغرافيا والتاريخ قد تغيرت كثيراً عن أيامه، ويمكن لنا بإصلاح التعليم أن نصلح الإنسان، وبه نصلح المجتمع. وبالنظر إلى أعداد السعوديين الملتحقين بداعش، وإلى من تم إيقافهم لعلاقتهم بالتنظيمات الإرهابية ندرك أن جنوحهم للإرهاب لاعلاقة له بالدين والتدين بقدر ماهو سطحية وسذاجة في فهم الدين، وسوء ظن بالله، ويأس وقنوط، جعل أحدهم يدلف برجل إلى وكر الشيطان، فلم يعد أمامه إلا أن يتبعها الأخرى أو يفقد رأسه. وإذا كان الرئيس باراك أوباما يعتقد أن الخلاص من داعش قد يستغرق 20 عاماً، والرجل "أبخص"، فإن المنطق يأخذنا في مسارين للتعامل مع أزمة انخراط بعض الشباب في هذا التنظيم المارق عن الدين، أولهما برامج علاجية للفئات التي اعتنقت أو تميل إلى هذا الفكر على مدى عشر سنوات قادمة، وثانيمها، برامج وقائية تركز على تعليم من هم في السابعة من العمر من أبنائنا وبناتنا تعليماً مختلفاً، يصلح العقل، وينمي المهارات النقدية والتحليلية، ويربط الدين بالعمل، ويقيم التدين على العبادة والمعاملة، وبذلك يغذى المجتمع بعد 10 سنوات بشباب في السابعة عشرة من أعمارهم قادرين على نقض نظرية ابن خلدون، وعلى لجم الجماعات الإرهابية.
تم طباعة هذه الخبر من موقع بوابتي www.bawabatii.com - رابط الخبر: https://bawabatii.com/news14150.html