ما هي القوة الموجهة للشباب؟ هل هي روحية ومعنوية عامة، أم غرائزية ومادية؟
بداية، لا بد من الإشارة إلى حقيقة أن الشباب هم ركيزة الأوطان وسر قوتها، وعماد نهضتها. وبالقدر الذي يرتقي فيه الشباب مراتب العلم والفضيلة بالقدر الذي تصل فيه أوطانهم إلى حيث مجدها وتطلعاتها السامية.
إن تنشئة الشباب ورعايتهم مسؤولية القوى الحية في كافة مواقعها. وبصلاح هذا الجيل الناهض يصلح المجتمع ويزدهر، ويغدو أكثر تماسكاً وترابطاً، وأكثر أمناً واستقراراً، وقدرة على مواجهة التحديات، مهما بلغت
ومن هنا، تبدو العناية بالشباب، ورعايتهم روحياً وفكرياً، مسألة جوهرية وحاسمة بالنسبة لأي أمة. إن ذلك يعني تحديد وجهة الحاضر، ورسم صورة المستقبل، على كافة المستويات، ذات الصلة بالحياة العامة ومساراتها.
إن التطوّر الاقتصادي والاجتماعي، وإنجاز وعد التنمية الشاملة، وتحقيق التعايش الوطني، وإدامة الاستقرار الأهلي، وتأكيد مفهوم المواطنة، يرتبط على نحو عضوي بطبيعة المقاربة الوطنية الخاصة بتنشئة الشباب، وإعدادهم ورعايتهم.
وعليه، يُمكن القول إننا بصدد مهمة كبرى سامية، لابد من تسخير كافة الطاقات والإمكانات من أجل النهوض بها، وتحقيقها على أفضل وجه.
ودعونا نعود الآن إلى السؤال التالي: ما هي القوة الموجهة للشباب والمحددة لخياراتهم؟
بالطبع، ليس ثمة مسار واحد أو أحادي للمؤثرات الدافعة باتجاه تشكيل البنية النفسية والفكرية للشباب، واستتباعاً تحديد خياراتهم الاجتماعية والثقافية، وبلورة دورهم في توجيه دفة الحياة العامة، ورسم معالمها.
إننا بصدد منظومة من المسارات، ترتبط فيما بينها بعلاقة تكاملية في الغالب. وقد يبدو بعضها، في حالات أخرى، ناسخاً لبعضها الآخر، أو معترضاً له ومتصادماً معه، فيما يُمكن وصفه بالنسق الفوضوي للمؤثرات.
وعلى الرغم من ذلك، يُمكننا تقسيم المؤثرات تقسيماً أولياً، تأسيسياً، إلى صنفين: روحية ومعنوية عامة، وغرائزية - مادية.
المؤثرات الروحية والمعنوية، هي تحديداً التي يعنى بها هذا المقال. وهي تتجلى في الدين، والتربية الأسرية، والمدرسة، والثقافة المكتسبة عامة.
يبرز الدين في طليعة المؤثرات المحددة للتشكيل النفسي والفكري لدى الشباب.
والأصل هو أن الدين يُمثل ضمانة لسلامة البنية النفسية والفكرية لدى الإنسان، وسبباً لصلاح مسلكه واستقامة سيرته. والمجتمع المتدّين مجتمع متماسك متآخي، روحاني العشرة والمسلك، نهضوي التطلّع والطموح.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الدين، بما هو وشاح، وقوام وظلال، قد يتعرض للانتقائية أو التشويه. وقد يجري تفسيره على نحو مقلوب، منافياً لروحه ومقاصده السامية، وذلك هو الضلال المبين.
وعند هذا المنعطف، يفقد المرء وشاح الدين، الذي يحميه من التيّه والردى، ويخسر بالتالي توازن النفس، ورجاحة العقل، واستقامة السيرة والمسلك.
ومتى حدث ذلك، انهار قوام الفرد، وتزايدت الضغوط على منظومة القيم الناظمة لحركة المجتمع، وبات أكثر عرضة للتحديات.
وبعد ذلك، ماذا عن التربية الأسرية؟
تعتبر التربية الأسرية العنصر التالي الأكثر تأثيراً في توجيه مسيرة الشاب، بعد الفضاء الديني والروحي. والعلاقة بين العنصرين هي علاقة تلازمية بالضرورة، إذ ان الأسرة معنية أيضاً بدفع ابنها نحو القيم والمثل الدينية السامية. وعلى الرغم من ذلك، فإن ما نصطلح عليه بالفضاء الديني هو أوسع مدى ونطاقاً من الأسرة ودورها.
إن دور الأسرة هو دور تأسيسي ورقابي مزدوج، فهي لا تستطيع أن توّجه شاباً لم تساهم في الأصل في صياغة رؤيته وخياراته في الحياة. كما أن مساهمتها هذه لا تعفيها عن الاستمرار في العناية بحاضر الشاب ورعايته نفسياً وثقافياً. وهذه مهمة صعبة بطبعها. بيد أنه لا بديل عن التمسك بها، لأن العواقب حينها قد تكون مدمرة للفرد والمجتمع على حد سواء.
والآباء والأمهات يواجهون اليوم نمطاً معقداً من التحديات، وطوفاناً من الضغوط، المتأتية من الفضاء الخارجي، الذي بات معولماً، وعاتياً في مؤثراته. ولذا، لا بد من شد أزرهم بالجهود الأوسع نطاقاً لمؤسسات المجتمع المدني، التي لابد من دعمها ومساندتها هي الأخرى، من أجل أن تتمكن من النهوض بدورها على النحو المؤمل والمطلوب.
وماذا عن المدرسة؟
لعل المدرسة تُمثل بيت القصيد، وفيها تتقاطع معظم المؤثرات الدافعة باتجاه صياغة شخصية الفتى (واستتباعاً الشاب)، وتوجيهه نفسياً واجتماعياً. إنها ببساطة العامل الأكثر تأصيلاً، وإن لم يكن الأكثر حسماً، في صناعة هذه الشخصية.
إضافة لدورها التعليمي والتربوي العام، فإن المدرسة معنية، في وقتنا الراهن، بالالتفات إلى أمر أساسي، هو التأكيد على تسامح الإسلام ورسالته الإنسانية.
من الأهمية بمكان التركيز على حقيقة أن هذا الدين قد جاء ليتمم مكارم الأخلاق. وأن الله مدح نبيه محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، بقوله "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ". وقال عنه تعالى: "وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ".
هذا هو أصل الدين، وهو سر مجده وخلوده وعظمته.
والنقيض التام لهذه المفاهيم السامية هو الغلو والتطرّف، والتشدد مع الناس، بالفعل أو القول، أو حتى بسوء الظن، فهذا أيضاً من الظلم الذي لا يرضى عنه الله.
لقد أُمرنا، نحن معشر المسلمين، بحسن العشرة، من منطلق أن الدين هو المعاملة، وأمرنا بلين العريكة، والتواضع، وأن نقول للناس حسناً.
ومتى ابتعدنا عن هذه الأصول، فإننا نكون قد ابتعدنا عن الدين ذاته، ولن تغنينا بعد ذلك طقوسنا من الله شيئاً، فالله لا يقبل عبادة اختلطت بظلم الذات أو ظلم الآخر، إنما يتقبل من المتقين. وعلينا التزام التقوى، إن كنا نرجو الله وحسن ثوابه.
وبعد مؤثرات المدرسة، أو بموازاتها، ماذا عن الثقافة المكتسبة، خارج النطاق التعليمي المباشر، ودورها في تشكيل البنية النفسية والثقافية للفتية والشباب؟
ثمة أمور عديدة يُمكن التوقف عندها في هذا السياق، إلا أن العنصر الأهم يكمن في وسائل الإعلام، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت صاحبة دور محوري، ملتصق بكل الفئات والأعمار.
وخلافاً للمدرسة، فإن دور الإعلام لا يُمكن وضعه في المنتصف، على مستوى الفعل والتأثير، فهو إما إيجابي وبناء، أو سلبي وهدام، ومقوّض لبنية وقوام الفرد والمجتمع.
بالطبع، ليس جائزاً الحكم على وسائل الإعلام على نحو التعميم والإجمال. وليس من الحكمة أيضاً النظر إليها على أنها شر غالب على المجتمع، وسالب لإرادته. هذه نظرة استلابية لا إرادة فيها. وهي نظرة ضارة بكل تأكيد.
إن المرء مخيّر لا مسيّر، له عقل، وله إرادة كامنة أو ظاهرة. وهو يدرك طريق الخير بفطرته، ويدرك دروب الشر بفطرته أيضاً. وعليه أن يختار ما هو نافع ومفيد، ويبتعد عما هو سلبي ومدمر. وعلى القوى الحية في المجتمع أن تكون مبادرة، وصاحبة فعل لا ردود أفعال. وهي معنية بطرح الرؤى والأفكار المضيئة، التي تزرع بذور الخير في نفوس الأجيال الشابة، وتنير لهم دروب الفضيلة، وتبعدهم عن الوقوع في براثن السلبية والاتكالية، أو السقوط في شراك المجموعات المتطرفة، التي تنزع عنهم إنسانيتهم، وتبعدهم عن جوهر دينهم، وأصله وفلسفته، ومقاصده السمحاء.
وبطبيعة الحال، نحن ندرك حجم هذه المسؤولية، ونعي تماماً مدى التحديات التي تفرضها. بيد أن ما هو قائم بالفعل ليس في مستوى ما يُمكن فعله والنهوض به. إنه دون ذلك بكثير. وهو لا يتناسب، من قريب أو بعيد، مع حجم الضخ الإعلامي الهدام وغير البناء، سواء العبثي منه، أو ذلك المروّج لمسارات الغلو والتطرّف، والبعد عن جوهر الدين، والصالح العام.
إن العبرة هنا ليس بحجم الإمكانات المتاحة، بل بمستوى الإبداع الذي يجب طرحه، والانطلاق منه. إن ما يملكه مروجو التطرّف والغلو، أو أصحاب العبثية واللهو، لا يوازي، بأي شكل من الأشكال، ما هو بحوزة القوى التي يفترض أنها مسؤولة عن تنوير المجتمع، وحماية نسيجه، وتحفيز عوامل نهوضه وتطوّره.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الوقت لم يفت تماماً، ولازالت الفرصة قائمة ومؤاتيه، وعلى كافة المعنيين بحماية الشباب وصون مستقبلهم أن يبادروا لفعل كل ما يُمكنهم فعله، وهو كثير بالتأكيد. وعليهم أن يفكروا فيما هو نوعي وواقعي ومحبب للنفوس، وأن لا يركنوا للأدوات والخيارات التقليدية، التي تقلص دورها وتأثيرها في العالم أجمع.
إن تنشئة الشباب ورعايتهم مسؤولية القوى الحية في كافة مواقعها. وبصلاح هذا الجيل الناهض يصلح المجتمع ويزدهر، ويغدو أكثر تماسكاً وترابطاً، وأكثر أمناً واستقراراً، وقدرة على مواجهة التحديات، مهما بلغت.